
الثروات الطبيعية في الجنوب الشرقي للمغرب تطرح سؤالا عميقا يتجاوز الأرقام والإحصائيات نحو جوهر العدالة المجالية وحق الإنسان في التنمية.
حين نتحدث عن أقاليم مثل ورزازات وزاكورة وتنغير وطاطا، فإننا نتحدث عن فضاء شاسع وغني بالثروات المنجمية والطاقية، لكنه في الوقت نفسه يعيش مظاهر التهميش وضعف البنيات الأساسية وقلة فرص الشغل. المفارقة صارخة بين غنى الأرض وفقر الإنسان، بين مشاريع كبرى تحمل شعارات التنمية وبين واقع اجتماعي يعاني الهشاشة والبطالة والهجرة.
في الجنوب الشرقي تمتد المناجم على مساحات واسعة، تُستخرج منها معادن نادرة كالذهب والفضة والنحاس والمنغنيز، وتُشغَّل فيها أيدٍ عاملة محلية محدودة العدد وغالبا بعقود مؤقتة. ورغم العائدات الكبيرة التي تجنيها الشركات، فإن الأثر الاقتصادي والاجتماعي يظل محدودا في الأقاليم التي تحتضن هذه الثروات.
لا مصانع لتثمين المواد الخام، لا مناطق صناعية مهيكلة حول المناجم، ولا سياسات واضحة لربط النشاط المنجمي بالاقتصاد المحلي.
في المقابل، تتكبد الساكنة المحلية تبعات بيئية واجتماعية خطيرة: ندرة المياه، تلوث التربة، تدهور الأراضي الفلاحية، وارتفاع تكاليف المعيشة. كل هذا دون مقابل تنموي ملموس يعوّض ما تُخرجه الأرض من خيرات.
ما نراه هو أن الثروة تُنقل إلى خارج المنطقة، بينما يبقى الفقر والبطالة في الداخل. إنها معادلة غير عادلة تقوّض ثقة المواطن في جدوى المشاريع الكبرى التي تُقام فوق أرضه دون أن تغيّر واقعه.
ورزازات، التي صارت تُعرف بعاصمة الطاقة الشمسية، تحتضن مشروع نور العملاق الذي يُعتبر من أكبر المشاريع الطاقية في إفريقيا والعالم، ومع ذلك لا تزال المدينة تعاني من غياب فرص شغل مستقرة، ومن ضعف الحركية الاقتصادية خارج القطاع السياحي والسينمائي. المشروع الوطني الذي كان يفترض أن يكون قاطرة تنمية محلية لم يتحول بعد إلى مصدر دينامية حقيقية للمنطقة، لأن مردوديته الاجتماعية محدودة، ولأن استثماره ظل محصورا في البنية التحتية دون ربطه بالمبادرات الاقتصادية المحلية.
الأمر نفسه ينطبق على مناطق أخرى مثل طاطا الغنية بالمعادن والزراعة الواحية، وزاكورة التي تحتضن ثروات مائية وباطنية مهمة لكنها لا تزال تواجه تحديات قاسية في مجال التشغيل والخدمات، وتنغير التي تعاني من الهجرة المستمرة نحو المدن الكبرى بحثا عن فرص أفضل.
المشكل ليس في غياب الثروات، بل في غياب رؤية تنموية عادلة تضمن توزيعاً منصفاً لها. فالدولة، حين تمنح التراخيص للشركات الكبرى، مطالبة بوضع شروط صارمة تفرض على هذه الشركات المساهمة في التنمية المحلية، سواء عبر تشغيل أبناء المنطقة، أو عبر تخصيص نسبة من الأرباح للاستثمار في مشاريع اجتماعية كالتعليم والصحة والبنية التحتية.
إن الجنوب الشرقي لا يحتاج فقط إلى استخراج الثروات، بل إلى تثمينها في عين المكان. إنشاء وحدات صناعية لتحويل المعادن، ومراكز بحث وتكوين مرتبطة بالأنشطة المنجمية والطاقية، من شأنها خلق آلاف فرص الشغل المباشرة وغير المباشرة، وتعزيز استقرار الساكنة، وتحفيز الكفاءات المحلية على البقاء في مناطقها.
كما أن البعد البيئي لا يمكن تجاهله. فاستغلال المناجم يجب أن يتم وفق معايير تحافظ على الموارد الطبيعية وتحمي الفرشات المائية من التلوث والاستنزاف. التنمية التي تدمر البيئة ليست تنمية، بل استنزاف للمستقبل.
إن أقاليم ورزازات وزاكورة وتنغير وطاطا تمتلك كل المقومات لتكون أقطابا اقتصادية متكاملة في مجالات الطاقة والمعادن والسياحة والفلاحة، لكن ذلك لن يتحقق إلا عبر رؤية جهوية شمولية تدمج الإنسان في قلب المشروع التنموي.
التنمية ليست في ضخ الأموال فحسب، بل في بناء الثقة مع المواطن وإشراكه في اتخاذ القرار وفي جني ثمار الثروة التي تُستخرج من أرضه.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية التي تتعامل مع الجنوب الشرقي كمجرد خزّان طبيعي. المطلوب اليوم نموذج تنموي يربط استخراج الثروة بخلق القيمة المضافة محلياً، ويجعل من هذه الأقاليم مختبراً حقيقياً للعدالة المجالية. فحين يشعر المواطن في ورزازات أو زاكورة أن خيرات أرضه تُستثمر في تعليمه وصحته وفرص شغله، حينها فقط يمكن أن نقول إن التنمية وصلت إلى مبتغاها.
الثروات الطبيعية ليست مجرد أرقام في تقارير رسمية، بل هي حق جماعي يجب أن ينعكس على حياة الناس. الجنوب الشرقي لا يطلب المستحيل، إنه فقط يطالب بنصيبه العادل من ثروات بلاده، وبأن تتحول المناجم ومحطات الطاقة إلى جسور تربط بين الكرامة والعيش الكريم. فالتنمية الحقيقية تبدأ عندما يشعر الإنسان أنه ليس متفرجاً على ثرواته، بل شريكاً في صنع مستقبلها.




