رأي

حجة “الاهتمام بأقارب المريض”: لماذا يتردد المفكر العربي المعاصر؟

 


محمد العفو – ورزازات 

لي بنمخلوف واحدا من المفكرين المغاربة القاطنين بفرنسا، مدرس بجامعة السربون منذ 1991، متخصص في المنطق و عضو المعهد الجامعي في فرنسا. عمل على منطق جوتلوب فريجه، و برتراند راسل و لودفيج فيتغنشتاين. باحث حذر من ما هو غير مجدي في البحث عن ” المعنى الحقيقي”. و قد فضل الصرامة الفكرية للإجراءات المنطقية على الكلمات الميتافيزيقية الفضفاضة. 

و بنمخلوف الذي كان، لمدة ثماني سنوات، عضوًا ثم نائبًا لرئيس مجلس الأخلاقيات الاستشاري الوطني، نشر كتبا منها: ابن رشد Averroès (2000)، بتراند راسل Bertrand Russell (2004)، مونتانMontaigne (2008) ، و كلها من منشورات Les Belles lettres. في هذه سير الذاتية للفلاسفة الذين يفضلهم، يستعيد بنمخلوف مساهمة كل فيلسوف مع سياقها التاريخي والمعرفي. أما كتابه  حول الهوية L’Identité. Une fable philosophique (PUF, 2011) تكريمًا لعبقرية لويس كارول Lewis Carroll، يفكك بنمخلوف فكرة الهوية لإبعادنا عن أي شكل من أشكال الانغماس في الذات والأنانية، و تميزها عن ” مغالطة الخصوصية، تلك الخاصة بالهوية والتوتر والتشنج القاتل” و تميزها كذلك عن “الانتماء الحصري”. أما كتاب: لما أخلاقيات الحياة ( البيوإتيقا)؟ La Bioéthique pour quoi faire ? (PUF, 2013)  و هو المجلد، الذي نُشر بمناسبة الذكرى الثلاثين للجنة الأخلاقيات الاستشارية الوطنية، الأولى التي تأسست في العالم، يجمع 71 مساهمة قصيرة و مرموقة من أعضاء سابقين، تحث إشراف بنمخلوف. و كتاب: لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟Pourquoi lire les philosophes arabes (Albin Michel, 2015 ; rééd. 2020) أعيد إصداره في بداية العام 2020 في شكل كتاب جيب، يتتبع فيه بنمخلوف المساهمة غير المعروفة و “التراث المنسي” للفلاسفة الناطقين بالعربية. إنه يحاول “تنسيق” أفكار القرون الوسطى بأفكار المعاصرة. و في كتابهLa Conversation comme manière de vivre (Albin Michel, 2016)، استدعى مونتان و فلوبير و بارثس، للإشادة بأهمية المحادثة التي صنع منها نموذجًا للفكر الحواري، والذي لا يمكن أن يكون بدون إيماءات، أو نفس أو ذرة صوت.

في حين أن كتابLa Force des raisons. Logique et médecine (Fayard, 2018)، مع تركيبته الشاقة، هو تلخيص لمنهج بنمخلوف. يحدد الكتاب الرابط الذي يحتفظ به المنطق بين الطب و مفهوم “الحيوي”. و هو يدافع عن شكل من أشكال ما يسمى بالأخلاقيات “الإجرائية” procédurale، و هنا يستكشف على وجه الخصوص مفهوم “القصدية” Intention.

والمثير في هذه العنوان أن كل واحد سيساهم في تشكيل تصور – خلفية للفكرة التي سأدلي بها: الهوية، أخلاقيات الحياة، أهمية الفلاسفة العرب، الحوار، المنطق والطب. و تصور – خلفية هي: هناك أهمية للفلاسفة العرب في إعادة صياغة أخلاقيات الحياة المعاصرة بناءا على المنطق الصارم والطب الانساني على شرط وجود حوار لبناء هوية كونية.

نشرت ” مجلة الفلسفة” Philosophie magazine في عدد 144 أكتوبر 2020، حوارا بين سدريك أنوجالبير و بنمخلوف. يذكر مفكرنا المغربي أن ملاحظته إضافة ابن سينا، أشهر طبيب عربي في القرون الوسطى، إلى لائحة العناية بالمريض ( هناك أفق فكري أوسع إذا استخدمنا “المرض”)، شكلت حدثا طبيا بارزا. تدخل هذه الإضافة في سرديات النوع أو في نوع أدب الطب، و ذلك في نطاق الانشغال بالذات و تبئير الوسط المرضي كما جاء عند فوكو. تمثلت إضافة ابن سينا في عنصر آخر هو ” أهل المريض”. معنى هذا أن أقارب المريض يشكلون عنصرا أساسيا في فهم المرض.

و حسب بنمخلوف، من الصحيح أنه بعد تبرير، أولا العلوم الدنيوية على أساس قراءة القرآن التي تدعو إلى ” ممارسة الفحص العقلاني”، لدى العديد من الفلاسفة العرب العقلانيين، الذين يكتبون بالعربية في العصر الوسيط مثل ابن رشد، و حيث استثمر هؤلاء الفلاسفة العرب حججهم العقلانية؛ و أيضًا ثانيا، بعد تبرير الفلسفة العملية، من خلال معرفة حكم الذات والآخرين، فإن الفلاسفة العرب العصر الوسيط، بدؤوا في التفكير فيما يسميه فوكو، في النصف الثاني من القرن العشرين “الاهتمام بالذات” Souci de soi/ Care of the self، أو أسلوب معين للوجود. إنهم يقتبسون من الطبيب اليوناني جالينوس (129-201 ق.م) بدلاً من أرسطو حول هذا الموضوع. بالحديث عن العلاقة بين المرض والمريض والطبيب. و هنا يضيف بنمخلوف عنصرا راهنيا، لدي ابن سينا الوسيط، هو: ” أقارب المريض”، الذي يبدو وجوده واضحًا لنا اليوم منذ منتصف مارس 2020. يرى بنمخلوف في هذه الإضافة حداثة ليست غريبة علينا. و على إثر ذلك طلبت منه الأكاديمية الوطنية للصيدلة في عام 2015 بفرنسا تقديم مساهمة ابن سينا في توسيع حقل ما أسميه ” التاريخ الفكري للمرض”.

تعد الفلسفة العملية واحدة من فروع الفلسفة. تقوم على دراسة مصدر أفعال وأنشطة الإنسان. و تتضمن فلسفة الأخلاق، فلسفة السياسة، فلسفة الحق منذ كانط. لما كانت محاور اهتمامها: البيوإتيقا، و فلسفة الفعل، الميتا إتيقا، الأخلاق، الإتيقا العملية، الإتيقا الوصفية، الإتيقا المعيارية،… فإن الفكر العربي المعاصر مدعو بإلحاح إلى إعادة البريق إلى هذا الفرع الذي نشأ على التهكم والنظرة التحقيرية.

من هنا سيمكنه الخوض في المفاهيم الأساسية المرتبطة بالفلسفة العملية، محققا في الأفعال المرتبط بالمرض: كالوعي، الخير والشر، الحق، كرامة المريض، الواجب نحو المريض، العدالة الصحية للجميع، الحرية أثناء اختيار و اختبار نوع العلاج، القانون المواكب للمرض، المعيار، المسؤولية، القيم، الفضيلة، الإرادة…

من المتوقع أن يعرف تحليل تلك المفاهيم تضاربا و تنوعا في المواقف، لأن الفلسفة العملية ترتبط بمذاهب و تيارات. نجد منها: الغيرية التي تطرح علاقة المريض بالأهل؛ والفردانية التي تفكك وضعية الانسان في العزلة الاختيارية دون أن يكون في علاقة مع محيط المريض، أقصد الذي يعيش بعيدا عن المرض؛ لكن كذلك الأنانية التي تخلق نوعا من التباعد العاطفي مع المريض أو قد تزيد من الحالات المرضية. أما أخلاقيات المناقشة فهي كفيلة بتنظيم و تشجيع التواصل والحوار حول تلك الموضوعات الشائكة، في حين أن أخلاقيات البيئية ترهن أي تدخل في محيط المرض بالإبقاء على التوازنات الحيوية الطبيعية، و أن مبدأ الصالح العام والواقعانية الأخلاقية سيحاوران العدمانية Nihilisme، والانسانيات ستواجه الانجازانية Perfectionnisme.

أعود، في علاقة بحجة “أقارب المريض”، و أقول: بعد عدة عروض، أقصد نموذجا تلك التي أنتجت أثناء الحجر الصحي بالمغرب، حول موضوع المرض، يمكن الآن توسيع التفكير في الهوامش، من منظور الفلسفة العملية، انطلاقا من: الحدود الجديدة “للمرض الطبيعي” و “المرضي”، حول ” التطعيم”، “تباين ظروف تنزيل الحجر الصحي والسلطة بين المدن” و “المرض والهدنة” و “المرض والمؤسسة” و “مراقبة الحالة الوبائية والمصلحة”، يمكن طرح مفارقة أود إثارة نقاش حولها بهذه المناسبة، والتي ألهمني إياها مجهودات بنمخلوف، هي مفارقة تهم جانبا آخر من هذا الموضوع، و هي كالتالي: في الوقت الذي يستثمر البعض الحجج لإظهار مكانة الفلسفة العملية يقوم البعض بالدفاع عن وظيفة أخرى، ليس هي الوظيفة التي تحاول الفلسفة القيام بها منذ قديم و هي التطبيب، بل هي الاستمرار في تخصيصها بالبحث الميتافيزيقي. على ذلك أتساءل: أ تكفي الصرامة الفكرية للإجراءات المنطقية وحدها، و تفضيلها على الكلمات الميتافيزيقية الكبيرة، لإنتاج المعنى والخوض في التفسير أم أن هناك منهج آخر، لا يقل أهمية عن الاجراءات المنطقية، هو منهج الفهم؟ هل هناك من ضرورة مرحلية للتخلي عن التفكير الميتافيزيقي؟ هل يمكن الاستفادة من المسار الفكري لبعض المفكرين الذي بدؤوا من حقول الميتافيزيقا والمنطق والمنطق الرياضي و فلسفة اللغة الصورية و فلسفة العلوم،… و اهتموا هامشيا بالانخراط في أسئلة مجالس التدبير السياسي للصحة أو أخلاقيات العلم أو التضامن… للتقليل من دوغمائية بعض الفلاسفة؟ أخيرا، و في ارتباط بالفلسفة العملية، هل لدى العرب المعاصرين، الذين يكتبون بالعربية، الشجاعة على اقتحام الهموم المعاصرة للفكر، منطلقين من قراءة تراثهم الخاص بالعلوم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى