محمد
العفو، مدرس الفكر الإسلامي والفلسفة.
لماذا ” التمركز حول
الذات” نعرة و خيلاء ميزت عصبية انحراف الفعل؟ يعد، في هذا السياق، كتاب ”
الخطاب الفلسفي للحداثة”: هو كتاب من نشره يورغان هابرماس في 1985 باللغة
الألمانية تحت عنوان: Der
Philosophische Diskurs der Moderne، قبل أن يترجم إلى اللغة الفرنسية تحت عنوان: Le discours
philosophique de la modernité سنة
1988. و
يستند هذا الكتاب إلى سلسلة من اثني
عشر محاضرة، ألقيت كجزء من ” نظرية الفعل التواصلي”،Theorie des kommunikativen Handln، The
Theory of Communicative Action.
بما أن هيجل أراد التوفيق بين العقل والواقع، عندما
دافع على أن “الواقعي هو العقلاني”، حيث أن الواقعي قد دفع، بالنسبة للبعض،
إلى القول إن تعريف الواقع لا يمكن إلا من خلال المذابح والإبادة الجماعية في
المدن و في المعسكرات. فترتب عن ذلك أن شجب العديد من الفلاسفة التنوير و هيجل و حقوق
الفرد و فكرة الخلاص عبر التاريخ.
يتولى يورغن هابرماس هنا، تاريخيا، نقد الخطابات النقدية
التي لم تتوقف الأزمنة الحديثة عن التمسك بها. على وجه الخصوص، ردود الفعل الثلاثة
على المشروع الهيغلي و هي: رد الفعل اليساري، أساسا فلسفة ماركس التي تمجد التطبيق
العملي، و ردود الفعل اليمينية، منها الليبرالية المحافظة، و أخيرا ردود فعل تيارا
“ما بعد الحداثة”، الذي يمثله هايدجر و باتاي و فوكو و دريدا. فهم بالنسبة
لهابرماس لا يزالون جميعًا مهووسين موضوع الحداثة و بالعقل الأداتي. هنا يقوم فكر
هابرماس على مناهضة الفكر “ما بعد الميتافيزيقي”.
و كتاب ” الخطاب الفلسفي للحداثة” يهجس بتبعات الانخراط في
” ما بعد الحداثة” بكل تلوينها. لقد أظهر إنسان القرن العشرين أنه قادر
على ارتكاب أبشع أشكال الوحشية والعنف. لقد وضع التقدم التقني في خدمة البربرية والهمجية:
أوشفيتز و هيروشيما. لكن، كذلك، لا يقل هذا التقدم التقني حضورا، في مجزرة صبرا و
شتيلا و مجزرة دير ياسين و مجزرة القدس و إبادة السكان الأصليين في الأمريكيتين، والإبادة الجماعية في رواندا… هي تجسد وجه العقلانية الأداتية البحتة، واللامبالاة بكل الأخلاق.
و قد شخّصت العديد من مدارس الفكرية هذا على أنه فشل للحداثة الموروثة من قيم
التنوير: العالمية أو الكونية، والعقلانية، والتقدمية.
و
سواء كان الأمر متعلقا بـ ” الديالكتيك السلبي” لأدورنو حيث يصبح العقل
مثالًا للهيمنة و التسلط؛ أو الجينيالوجيا ” علم أنساب” لفوكو حيث
الموضوع، بالنسبة إليه، هو نتاج أدوات السلطة؛ أو تعلق ” بتفكيكية”
دريدا، حيث يظهر الوعي على أنه وهم أنتجته اللغة، فقد قدمت نظريات ما بعد الحداثة
تلك، نقدًا جذريًا للعقل ” الأنواري”.
غير
أن تطلع الذات إلى تحرير نفسها، من خلال العقل، كما تدعي تلك النظريات، سيكون
بمثابة وهم يخفي منطق الهيمنة الأداتية
على العالم. في هذا السياق، يريد هابرماس، و هو تلميذ أدورنو في مدرسة فرانكفورت،
الابتعاد تدريجياً عن رؤية آبائه، منهم: هوركهامر و ماركوز و أدورنو… في نفس
المدرسة. لقد تابر على مواجهة مواقفهم المتطرفة بنقد ” ما بعد الحداثة”
بمشروع حديث يدعو فيه إلى رفض قيمة ”
التمركز حول الذات”. لهذا أعاد التفكير في خطاب الحداثة كما تبلور مع باطاي و
هايدغر و ديريدا و فوكو.
مشكلة الحداثة:
يقترح
هابرماس نشأة مشكلة الحداثة من أن الدين والميتافيزيقيا لم يعدا أساسين للواقع.
فقد وجد الوعي التاريخي الحديث مبدأه في ذاته، أي في قلب الذات حيث يجب عليها أن
تتمتع بالاستقلالية و أن تجد أساس عملها الواقعي. و مع ذلك، فقد أظهر هذا الأساس
هشاشته في أنتجته أوراق ” ما بعد الحداثة”. حول هذه النقطة، أدركت
نظريات ” ما بعد الحداثة” ذلك بشكل صحيح أن نتائج الحداثة تفرض نقدا ليصحح
وضعها. لكن هابرماس يعارض ذلك النتاج باعتراضين. إنه يختزل الحداثة إلى بعدها
السلبي و إلى هيمنة العقل الأداتي. و باستبعاد نفسه، بمرسوم بسيط، من الحداثة، يرفض
هذا النتاج النظري لما بعد الحداثة، الخضوع لمتطلبات التبرير والنقاش المنطقي.
فتوسيع هذا المقترح يجعلنا أمام تصور في التربية على تداول المعلومة والمعرفة
والفكر والسلطة والمصلحة في جو من الحرية مع بناء حجاجي عقلاني. كيف يتقدم هذا
الحجاج العقلاني؟
العقل التواصلي عند هابرماس:
إنه
يتعلق بتطوير نظرية للحداثة قادرة على إزاحة العقلانية عن ” حدود العقل
المتمركز حول الذات”، ليجعلها منفتحة على حجج الغير. فأخلاق التواصل تقتضي
التربية على التفكير النقدي لأن هذا هو المكان الذي لا تتعثر فيه خطوات المحادثات
والتواصلات. إن ” ما بعد الحداثيين” على حق بمعنى ما: هناك بالفعل
“استنفاد” لخطاب الحداثة، لكن السبب يكمن في تفشي التهاون، أو إفراغ
العقل من المسؤولية الأخلاقية أثناء التواصل، ذلك من الأساس الذي قاد صعودها منذ
نهاية القرن الثامن عشر مع كانط.
في
الواقع، يظل ما بعد الحداثيين أسرى نموذج ” فلسفة الوعي” عن طريق اختزال
العقل إلى أداة للمعرفة والإتقان. يدعو هابرماس إلى نقلة نوعية: في “الفعل
التواصلي”. ففي التفاعل اللغوي، يمكننا استعادة العقل و إكمال مشروع الحداثة.
أي استكمال مشروع التربية على التواصل العقلاني الذي يلازم التفكير النقدي لخطاب
الغير أمام قصور المبادرات النقدية، و تغول الأنظمة القهرية و استفحال الحجة
التقنية التسلطية.
إن
العقل التواصلي المبرز في النظرية الاجتماعية لهابرماس، خطاب فعلي للمجتمع بأسره،
و ليس مجرد جانب واحد منه. نتيجة لهذه الشمولية، يتم استخدام عمله دوليًا في
الفلسفة والعلوم السياسية وعلم الاجتماع والتعليم. لتستعرض نتائجها على أساس جوانب
محددة من عمل هابرماس. يتم استخدامه في الأدب التربوي و تعلم اللغات و في التربية
المدنية، أي في السياسات التربوية. لا يعني هذا إجراء مسح شامل لمقالات التي
تستشهد بهابرماس، في فترة محددة، أو في فهارس الاستشهادات في العلوم الاجتماعية والانسانية
أو السياسية والاقتصادية، لكن يمكن تركيز كذلك على مراجعات تبرز تحديد جوانب عمل
هابرماس التي لها آثار على التعليم و تحليل تلك الآثار وتطبيقاتها على الموضوعات
والقضايا التعليمية.
فإذا
تبت وجود التربية على الفعل التواصلي في المسرح والنقاشات العمومية، في التربية
المدنية و في تحليل الحجج التاريخية للمجازر و في نقد مفاهيم الحقيقة و المعرفة
والمصلحة والإيديولوجيا… فإنه في الواقع لن نجد محتوى، هذا المشروع النظري، سوى
بالعودة إلى البيداغوجيا النقدية التي تأسست على النظرية النقدية لهابرماس. و كانت
مجموعة من الباحثين في أمريكا اللاتينية، قد استشكلت نقديا الوضع التربوي
والتعليمي في المدرسة والجامعة، معبرة عن ناضل لمواجهة السفاهة والانحلال الفكري
والتفاهة والاستهلاك الذي ترسخه النيوليبرالية.
ما
المدرسة؟
هذا
هو الوقت المناسب لطرح السؤال. ما المدرسة؟ و هو سؤال محور عن هابرماس: ما
الجامعة؟ و بتعبير آخر، كيف يمكن للمدرسة أن تصوغ رؤية تتضمن الاستجابة للمطالب
الاقتصاد للمتعلمين و تستجيب لمطالب الدولة في تدريس أكثر فعالية من حيث التكلفة و
في ذات الوقت الاستجابة لحاجة المواطنين والمواطنة؟
يجب
أن تكون الهيمنة المعاصرة لحجة التعلم المرتبط بالشغل متوازنة من خلال المتطلبات
الأساسية التي يتمتع بها المجتمع الديمقراطي و هي التفكير النقدي والنشاط الحجاجي
العقلاني للمواطنين. ستكون أفكار يورغان هابرماس
نقطة البداية لمناقشة وظيفة المدرسة، و ستحاول هذه الأفكار إعادة إيقاظ فكرة أن المدرسة
لها وظيفة حاسمة في حياة الدولة. إن فهم مشروع تعليم الصغار
في المجتمعات الحديثة لا ينفصل عن مفاهيم الفضاء العمومي والفعل التواصلي، فهي
قدرات المجتمع المدني الحداثي الملحة ليكون موقعه موقع المنخرط في التدبير العمومي
لطاقته و وعيه.
المصادر
والمراجع:
1. سالم يفوت، هابرماس ومسألة التقنية، مجلة فكر و نقد، العدد 1، شتنبر 1997.
2. محمد عبد السلام الأشهب،
أخلاقية المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، الطبعة الألى، 2013، دار ورد الأردنية
للنشر و التوزيع.
3. محمد نور الدين أفاية، الحداثة التواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج
هابرماس، إفريقيا الشرق، الطبعة الثانية 1998.
4. JÜRGEN HABERMAS , Le discours
philosophique de la modernité, Trad. de l’allemand par Christian Bouchindhomme
et Rainer Rochlitz , Gallimard, 2011.