محمد العفو
لعله انقضى زمن قريب العهد شهد في ورزازات هيمنة المسرح الجماعي، ليفسح المجال من جديد للمسرح الفردي، أو المونودراما، مع جمعية ” الوسام للتربية والتكوين”. فبعد مسرحية ” مذكرة عاشقة”٬ من أداء الممثلة، آية مشاكن، بدار الشباب حي المقاومة يوم 1 أبريل 2023، والتي لم تتح لي فرصة مشاهدتها بعد، تتبعنا مسرحية ” لحيط لقصير” من أداء الممثل إبراهيم مبارعي، بدار الشباب الحسن الثاني يوم 8 أبريل 2023. و كلتا المسرحتان من تأطير المسرحي ياسين قونين، إخراجا أو إعدادا دراماتورجيا أو تأليفا.
كانت، على وجه الخصوص، مسرحية ” لحيط لقصير” كالقناع النصفي، إذ هي تظهر و تخفي قضايا عدة؛ بدا لي منها، و من خلال المشاهدة الأولى: ” حمو” شخصية المتناقضات في المجتمع المغربي المعاصر؛ ” حمو” الذي يحتفظ على وعي الذات الوجودي المؤجل بمعناها الثوري؛ ” حمو” التعبير المحيل على التذاوت و انتزاع الاعتراف و علاقة الذات بالغير.
إن ثنائية الاخفاء والاظهار، التي تغطي مساحة كبير في الإخراج، بما فيه السينوغرافيا، اتقاء شر انتقال الواضح إلى الاستيضاح جماليا، يجعل ” حمو” نموذجا لشخصية المتناقضات في المجتمع المغربي المعاصر. إن يومياته بلحظاتها العصيبة والمتوترة لا تتمثل فقط في اعتماد تقنية الوقاية السائرة على لسان حال المقهور، تلك التي تقول ” عدي و سلك”، بل في تأمين الاخفاء والاظهار حتى في تجسيداته الوضيعة، في تلك اليوميات. و إن لم تكن العبارة الواقية ” عدي و سلك” بالضرورة فعالة في صد كل احراجات الاخفاء والاظهار و احتمالات انفلات الحكي، فإنها تُؤمّن قدرا غير يسير من تتبع تحولات الوعي بالذات في مجتمع المتناقضات.
يقوم عمل ثنائية الاخفاء والاظهار، بالإضافة إلى تمثيل نموذج شخصية المتناقضات، بتعميق جرح الذات المغربية بإخفاء مواقفها الطلائعية، و هذا ما يجعل ” حمو” الذي يحتفظ بوعي الذات الوجودي مؤجلا بمعناها الانتفاضي. إن التأرجح بين العزم على المثابرة والتراجع يشكل مكونا لا يغفله الجمهور، إذ ثمة شريحة منه تفتطن إلى أن معطيات القناع لا تكتمل أمامه دوام على المسرح. و أسباب التراجع؛ من: مضايقات ” حمو” في طلائعيته واستفساره والتهديد باقتطاع شرحة لحم من جسده… هواجس تحضر وعيه في كل نفس من وجوده في دلالة على الكثير مما يعود إلى عمر مجتمعه الذي يتقلب بدوره بين قوانين الإدارة والإرادة.
إن ثنائية الاخفاء والاظهار، التي تتنامى عبر صيغ الجسد والصوت والتموقع هي مختلفة في تستجلها للحركية مع الغير، و هذا ما يجعل حالة ” حمو”، على المستوى العلائقي، محيلا على التذاوت. إن قضية انتزاع الاعتراف و علاقة الذات والغير الذي يمتثل غيابيا، في إخراج يمزج الصوت والتخيل و إيقونات سينوغرافية، لا تنفصل عن نظرة الغير، تلك النظرة التي تعتبر بالنسب لـ ” حمو” تهديدا مستمرا. لا ترصد مظاهر الاخفاء والاظهار الاتقاء فحسب؛ بل محاولة من ” حمو” لانتزاع الاعتراف من دقائق التمييزات السياسية والاجتماعية. و يشكل مسار الاعتراف نفسه مسارا ملتويا، يستخدم بدوره شعيرة تنكرية هي التبرم من ماضيه التاريخي. و في سياق الاجتماع العلائقي يُنتزع ” حمو” من الارتهان بما يخصه إلى الارتماء في ما يخص الغير، لكن على هوى هذا الغير و نزواته التي لا حد لها، و على حساب الإمكانات التحررية الذاتية لـ ” حمو”.
في الأخير، إن السينوغرافيا والتحديات التمثيلية على الخشبة، تخلق غموضا يستخدم شخصية ” حمو”، بهذا الأفق المليء بالتفاعلات الاجتماعية التي تنسج وشائج تذاوتية، و هي غير واضحة المعالم، في مجال الأفق الاجتماعي اعتمادا على وعي ” حمو” الجريح و ذاكرة جريحة لمجتمع الجمهور المشاهد. إذا كان الحائط قصيرا للغاية فإن من الممكن العثور على نظائر إخراجية تفجر الطاقة التعبيرية للمثل الشاب مبارعي و هو لا يزال في بداية مشوار المسرح الفردي.
إن المسارات اليومية لـ ” حمو” و علاقتها بالأداء الصوتي والجسدي المسرحي والقليل من الرقص الكوريغرافي، تنقل تجربة التأليف والاخراج لياسين قونين من طقوس الولادة والنضج إلى تجربة وجدانية و مهنية في مجال التأطير التربوي والمسرحي، على الخصوص في دور الشباب بورزازات. و إن كانت تعوز المدينة قاعة مسرح لائق بما راكمته من تجارب مسرحة متعددة المدارس والتيارات الفكرية، فإن الأمل في شعلة الاستمرار والابداع بما هو متاح.